صناعة اللقاحات.. بوابة المغرب وأفريقيا لضمان الأمن الصحي
هيت راديو - جواد اشبلوا
افريقيا التي لطالما اعتمدت على استيراد 99% من اللقاحات و70% من الأدوية، تشهد الآن خطوات واعدة نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الصحة، مما يضع القارة على مسار جديد من الاستقلالية الصحية.
فبالرغم من التحديات المرتبطة بالبنية التحتية والتمويل، هناك بوادر إيجابية لنهضة محلية في إنتاج الأدوية واللقاحات. دول عديدة باتت تقود جهودًا لتأسيس صناعات دوائية محلية قادرة على تلبية الاحتياجات الإقليمية، وذلك على ضوء الإرادة السياسية للدول، وفضلا عن مبادرة الاتحاد الإفريقي لتصنيع اللقاحات، إلتي تهدف إلى إنتاج 60% من اللقاحات داخل القارة بحلول عام 2040
وشهد المغربب دوره تقدمًا ملحوظًا في تطوير وتصنيع اللقاحات، خاصة في ظل جائحة كوفيد-19، خصوصا بعدما ترأس الملك محمد السادس مراسيم إطلاق أشغال إنشاء مصنع لتصنيع اللقاحات في إقليم بنسليمان، بجهة الدار البيضاء-سطات، بهدف تعزيز السيادة اللقاحية للمملكة وللقارة الأفريقية بأسرها.
مجمع "MARBIO" بإقليم بنسليمان ضواحي الدارالبيضاء، يحتوي على ثلاثة خطوط إنتاج صناعية بقدرة مشتركة تصل إلى 116 مليون وحدة، مخصصة لإنتاج محاقن معبأة مسبقًا وقوارير للسوائل وأخرى مجففة بالتجميد.
ومن المرتقب أن يساهم مصنع اللقاحات في بنسليمان إلى حد بعيد في تعزيز الأمن الصحي في القارة الإفريقية من خلال تحقيق الاكتفاء الذاتي للقارة الإفريقية بإنتاج كميات كبيرة من اللقاحات تصل إلى 116 مليون وحدة سنويًا، مع تقليل اعتماد الدول الإفريقية على استيراد اللقاحات من الخارج، مما يقلل من التكاليف ويوفر الوقت في الحصول على اللقاحات.
كما أن إنتاج لقاحات محلية سيزيد سرعة الاستجابة لتفشي الأمراض والأوبئة، خاصة في المناطق التي تعاني ضعف في الأنظمة الصحية، مما سيقلل الفجوة الزمنية بين الإنتاج والتوزيع، مع توفير لقاحات بأسعار تنافسية مقارنة بالأسواق العالمية، وهو الأمر الذي سيتيح الوصول العادل للقاحات للفئات الأكثر حاجة في الدول الإفريقية، بغض النظر عن مستواها الاقتصادي.
كما يجب الإشارة إلى أن المشروع يعتمد على تدريب وتأهيل الكفاءات المغربية والإفريقية في مجالات التكنولوجيا الحيوية وصناعة اللقاحات، وتعزيز القدرات المحلية سيؤدي إلى بناء نظام صحي مستدام وقادر على مواجهة التحديات المستقبلية. فضلا عن تقليل الفجوة في توزيع اللقاحات عالميًا، إذ كانت أفريقيا من أكثر القارات تأثرًا بتوزيع غير عادل للقاحات خلال جائحة كوفيد-19.
هذا كله بالموازاة مع تماشي المشروع المغربي مع أهداف الاتحاد الإفريقي لتعزيز قدرة القارة على إنتاج 60% من احتياجاتها اللقاحية بحلول عام 2040، فهذا المصنع ليس فقط مشروعًا وطنيًا للمغرب، بل يمثل خطوة استراتيجية نحو تعزيز السيادة الصحية للقارة الإفريقية بكاملها.
ما وضع المغرب والقارة الأفريقية حاليا؟
أكد الطبيب الباحث في السياسات والنظم الصحية، الطيب حمضي،أن افريقيا التي تضم أزيد من مليار و300 مليون نسمة، التي تشكل 20 فلمية من ساكنة العالم، "لا تنتج إلا 3 في المائة من الإنتاج العالمي للأدوية، ولا تستهلك إلا 0.7 في المائة من الإنتاج العالمي للأدوية، مما يوضح ان افريقيا لا تنتج ولا تستهلك الأدوية"، فضلا عن استيرادها لـ 80 في المائة من حاجياتها من الادوية اذ تنتج فقط 20 في المائة من حاجياتها كقارة، مع استيرادها لـ 98 في المائة من اللقاحات وتنتج مع الأسف 2 في المائة فقط من حاجياتها من اللقاحات.
أما بالنسبة للمغرب، يتابع المتحدث، "فينتج ما بين 70 و80 في المائة من حاجياته من الادوية، ويستورد ما بين 20 و30 فلمية، ويقوم بتصدير 10 في المائة من الإنتاج الوطني لدور أخرى سواء في افريقيا والعالم.. وفي افريقيا توجد 3 دول توفر نسبا متقاربة من الادوية مثل المغرب، هي افريقيا الجنوبية، وكينيا، ومصر".
وكشف الطبيب الباحث في السياسات والنظم الصحية، الطيب حمضي، في تصريح لموقع إذاعة هيت راديو، ان البشرية طورت اللقاحات المناسبة لـ 30 نوعا من الأمراض، وذلك منذ اختراع اول لقاح قبل 200 سنة، وأوضح ان اللقاحات هي اهم اختراع بشري بعد "الماء الشروب" الذي حفظ للإنسان صحته وحياته، وأن أول مرض اختفى كليا بفضل اللقاحات هو مرض الجذري الذي قضت عليه اللقاحات كليا قبل أزيد من 40 سنة من الآن، والذي كان يتسبب في وفاة 5 مليون شخص كل سنة، وكان يسبب تشوهات جسمانية لعشرات آلاف الأشخاص عبر العالم.
وكشف حمضي على وجود عدد كبير من اللقاحات في طور التطوير حاليا، وليس مجرد الوقائية منها بل "العلاجية" كذلك، أي انها ليست قادرة فقط على الوقاية من الأمراض بل على علاجها أيضا في حالة الإصابة، وشدد المتحدث على أن الحاجة لتطوير اللقاحات ستظل مستمرة، بالنظر إلى استمرار تطور الفيروسات والجراثيم كذلك.
اللقاحات مكنت البشرية الآن كذلك من الاقتراب من القضاء على "شلل الأطفال"، وهو المرض الذي لا زالت تأثيراته ملحوظة في الجيل القديم، وذلك فضلا عن العديد من الأمراض التي كانت تفتك بالبشر، غير أن اعراضها أصبحت خفيفة جدا على الجيل الجديد من البشرية الذي استفاد من جرعات هذه اللقاحات.
وفي حديثه عن كلفة هذه اللقاحات، اكد حمضي انه بالرغم من أن الكلفة قد تكون مرتفعة بعض الشيء، "لكنها تغنينا عن كلفة أكبر تدفعها الحكومة للقضاء على الأمراض والأوبئة التي قد تنتشر في حالة عدم تعميم هذه اللقاحات، حيث يولد الأمر ضغطا على الأنظمة الصحية والحياة الاقتصادية، مثلما يتذكر الجميع أثناء انتشار جائحة كوفيد 19، حيث توقفت الحياة الاجتماعية والاقتصادية كليا، إلى حين تطوير اللقاحات التي ساهمت في تخفيف الوضع الحاد"، وتابعا المتحدث قائلا: "إن اللقاحات لها دور مهم، ويجب ان نفهم مثل "الحاجة التي ثمنها قليل واجرها كبير".. ينطبق على اللقاحات بالدرجة الأولى".
واكد حمضي في تصريحه لموقع إذاعة هيت راديو: "الخبراء الذين قاموا بدراسات على البشرية والتقدم العلمي، اكدوا أن أهم تقدم علمي قام بإنقاذ الحياة البشرية هو اختراع وتطوير اللقاحات، مباشرة بعد الماء الشروب، إلى جانب البنسيلين والمضادات الحيوية وادوية السرطان والسكري واكتشاف المكروبات وغيرها"، والمميز فيها انها تبقا وقائية تأخذ جرعاتها مرة واحدة، ولا تكلف تكاليف إضافية لشراء الادوية والمتابعة مع الطبيب وغيرها من الإجراءات التي تكون اكثر كلفة، وتابع المتحدث مؤكدا ان: "الدراسات تقول ان الاستثمار بدولار واحد في اللقاحات، فإن مردوده المالي يصل إلى 16 دولار باعتبار فوائده الصحية والنتائج السلبية والمصاريف الصحية المتجنبة، و40 دولار كمردودية في حالة انخفاض الإنتاجية ووفاة المرضى وغيرها من النتائج السلبية".
وتابع حمضي قائلا، إن التجربة المغربية في التعامل مع جائحة كوفيد 19، تتميز بإدراك المملكة لأمرين مهمين بفضل نظرة صاحب الجلالة الملك محمد السادس للموضوع، وقام بصياغة خطة شاملة بناء على هذا الوعي. النقطة الأولى تمثل في ان قطاع الصحة ليس قطاعا مستهلكا، لأن الاستثمارات التي توضع في هذا المجال ليست مصاريفا تحترق قيمتها بمجرد دفعها، بل هي استثمار مهم يدعم القطاع باعتباره عمودا للتنمية، أما بالنسبة للنقطة الثانية فتتمثل في أن الصحة هي عماد من أعمدة سيادة الدول، ونستشهد هنا بالخطاب الملكي الذي أكد في الملك محمد السادس، أن الامن الصحي هو جزء من الامن الاستراتيجي للبلدان، مثله مثل القطاع الأمني والعسكري والطاقي والغذائي والسياسي، وتابع المتخدث قائلا: "إننا تابعنا جميعا التقلبات التي عرفها العالم مع بداية جائحة كوورنا، في ماي خص الامن وسيادة الدول".
وصرح حمضي، ان المغرب يشتغل حاليا على تأهيل منظومته الصحية وموارده البشرية، كما عمم التأمين الاجباري عن المرض لتمويل قطاع الصحة، مع تطوير الصناعة الوطنية، ورغم انه لا زال في بداية الطريق، غير انه متقدم في استراتيجيته بعد التأكد من وعيه ويقظته بأهمية الامن الصحي والسيادة الصحية للمملكة وللقارة الافريقة.
Source:RF._.studio
بصيص أمل لتأمين مستقبل القارة
أعلنت منظمة الصحة العالمية أن كينيا وموزمبيق والنيجر تمكنت من السيطرة على تفشي شلل الأطفال، ما مكنها من استعادة وضعها كدول خالية من المرض. ويعود تفشي الفيروس المشتق من اللقاح في هذه الدول إلى عامي 2018 و2019، حيث أصاب 14 طفلاً.
يُذكر أن القارة الأفريقية لم تسجل أي حالات لفيروس شلل الأطفال البري منذ عام 2016، مقارنة بعام 1996، الذي شهد إصابة أكثر من 75 ألف طفل بالشلل. ومع ذلك، لا تزال بعض الدول تواجه تحديات مع الفيروس المشتق من اللقاحات، مما يستدعي استجابة قوية متعددة القطاعات لتعزيز التحصين ومكافحة المرض.
غير هذا، بدأت أفريقيا فعليا حربها على الملاريا، وهي الخطوة التي تشكل تحولاً كبيراً من المرحلة التجريبية إلى التوسيع الشامل للتطعيم ضمن برامج التحصين الروتينية، والتي بدأت في الربع الأول من عام 2024. يأتي ذلك في ظل عبء ثقيل تحمله إفريقيا، حيث سجلت 95% من حالات الملاريا العالمية و96% من الوفيات المرتبطة بها في 2021، معظمها بين الأطفال دون سن الخامسة.
أظهرت برامج التجريب في غانا وكينيا وملاوي فعالية اللقاح، حيث أدى إلى انخفاض بنسبة 13% في الوفيات بين الأطفال المؤهلين. كما أن إدخال اللقاحات إلى جانب تدابير مكافحة الملاريا الأخرى، مثل الناموسيات والعلاج الوقائي، يعزز من تأثيرها الإيجابي.
Source: Artem Yellow
التعاون جنوب جنوب.. طريق التقدم الفعلي للقارة الأفريقية
خلال جائحة كوفيد-19، أظهر المغرب تضامناً كبيراً مع الدول الإفريقية من خلال عدة مبادرات وإجراءات ملموسة لتعزيز التعاون الصحي والإنساني. في يونيو 2020، بتوجيهات من الملك محمد السادس، أرسل المغرب مساعدات طبية إلى 15 دولة أفريقية لدعم جهودها في مواجهة الجائحة. شملت هذه المساعدات كمامات واقية، وأجهزة تنفس صناعي، ومعقمات، ومواد طبية أخرى مصنعة محلياً وفقاً للمعايير الدولية.
من خلال الوكالة المغربية للتعاون الدولي (AMCI)، ساهم المغرب في تقديم الدعم التقني واللوجستي لتحسين أنظمة الصحة في العديد من الدول الإفريقية. كما أرسل بعثات طبية مغربية لدعم الكوادر الطبية المحلية في بعض الدول الإفريقية. وقد دعا الملك محمد السادس في أكثر من مناسبة إلى مقاربة جماعية إفريقية لمواجهة الجائحة، مع التركيز على التعاون المشترك بين الدول الإفريقية.
في الوقت ذاته، حرص المغرب على استمرار المبادلات التجارية مع الدول الأفريقية رغم الظروف الصعبة، لضمان توفير المواد الأساسية. كما عزز التعاون في مجال الأدوية والمستلزمات الطبية من خلال شركاته المحلية. وأطلق الملك محمد السادس مبادرة مع عدد من القادة الأفارقة تهدف إلى إنشاء إطار عملي لدعم الدول الإفريقية في مواجهة الجائحة. تجسد هذه الخطوات الروح التضامنية للمغرب وتؤكد مكانته كشريك استراتيجي لدول القارة الإفريقية في مواجهة التحديات الصحية والتنموية.
المستقبل بيد الأفارقة:
تشهد القارة الأفريقية تحولًا إيجابيًا في مواجهة أزماتها الصحية، حيث يظهر التعاون بين الدول الأفريقية كعامل محوري في تحقيق الاكتفاء الذاتي في اللقاحات والأدوية. من خلال هذه المبادرات، تتجه أفريقيا نحو تقليل اعتمادها على الاستيراد وتعزيز الأمن الصحي، مما يعزز قدرتها على دعم نفسها بنفسها وتحقيق مستقبل مستدام وصحي للأجيال القادمة.